وكأنّ رَجْع َحديثها...

وكأنّ  رَجْع َحديثها...

عبد المجيد يوسف

كم مرّة حوّلتني من واحد

أحد مليء بالغرائب والغيوب

إلى رجل أصابعه الدّجى

ورؤاه مرساة لأشرعة الشّعوب

~نصر سامي~

تقدّمتَ في هذا المكان الرّفيع الثّري المبسوطة أرضه بالرّخام المطلّة على جوانبه الواجهات الرّخاميّة المضاءة بالنّيون الملوّن العارضة للأحذية الباهضة الثّمن والملابس النسائيّة المثيرة للشّبق والأحلام الخاوية . تقدّمتَ من مقهاك الّذي تعوّدتَ الجلوس إلى إحدى موائده ، مقهاك الّذي هو في الحقيقة قبّة زجاجيّة يطلّ منها مسدّس من السّماء محمول على سواري رخاميّة . تقدّمت من مقهاك وأنت أنيقٌ ملمّع الحذاء ولا يبدو على هامتك ما بداخلك من الانكسارات والصّدوع النازفة... لا يبدو عليك البتّة أنّك القتيل النّاهض من ضجعته . لكن قلت : ما جلوسي وليس معي ورق وقد رقّ  القلب إذ داهمته الذّكرى والكلمات معا ؟

( ثمّة حالات قصوى يحتاج بها المرء قبضة عشب يقذفها في وجه الرّيح... ثمّة حالات أقصى يحتاج بها صفحة  دفتر. قد يحتاج بذاك الوقت رغيفا... فيشدّ على البطن ويمضي... لكن لا يستغني أبدا عن صفحة دفتر).

 النصّ الّذي أنهيتَه ثمّ نقضت َنهايته وطلبت له شيئا يستعصي على التّخييل يلحّ عليك كمسمار في النّعل. تقدّمتَ من بائعة عطور ورجوتها ورقة ممّا يُعدّ للفّ... فاعتذرتْ بأنّ تعليب البضاعة يتمّ في كيس من البلاستيك... وضحكتَ لبلاهة الوقت . خرجتَ وعينك على مكانك المفضّل... هو شاغر الآن ولكن هل يظلّ كذلك إلى حين أوبتك ؟                                          

 خرجتَ إلى فضاء تجاريّ قريب واقتنيت الدفتر.

 ( رجلٌ سجنوه... وكان قُبَيل الحبس نسّاجَ مجازات، وهبوه دواة.... بخسوه الدّفتر...)

 عدتَ إلى المقهى فوجدت شيخا أجنبيّا قد اقتعد مقعدك يشرب ويدخن.

 جلستَ غير بعيد وفتحتَ الدّفتر وشرعت تكتبُ.

كتبتَ.

وضعتَ على الورق ما كان يخزك من خلال النّعل ورضيتَ فيما يبدو على نفسك بل زدتَ وقلتَ : ماذا لو أطلت " فَ " الآن من ذلك المسدّس اللاّزورديّ المحمول على الرّخام فرأتني اكتب؟ كم تعشّقتْ صورةَ الكاتب فيك! كانتْ تحدبُ عليكَ وترعاك في خشوع المتبتّل فإذا قرأتَ عليها ما حـبّرتَ  انتحبتْ  و همى الدّمع مهراقا، فتـرشفتَ  أللآلي  على خدّها .

(ما تلفظه العينان بحجم الكون وله نسغ الإنسان الضارب في الحبّ…  له نسغ الإنسان لحظة صدقه وأنا منبهر بكنوز سليمان... كيف تجمع كلّ اللّؤلؤ في تلك الصَّدَفة ؟ !)

يا أنتِ في عليائك يا أيّتها الحبيبة النائية! أطلّي من اللاّزورد، هذا حبيبك كتبَ، أطلّي وخلّدي في التاريخ هذه اللّحظة الفريدة المدهشة، زوّقيها ببسمتك الصّامتة... بلّليها بندَى مآقيك وأنت تنظرين إليه يكتب . وبدونك  وبدون لهفتك  وبدون حرارة الدّمع المنبجس على خدّك سيظلّ هذا النصّ صامتا بلا صدى وبليدا بلا معنى .

 ونظرتَ بانكسار إلى مائدتك عليها باقة من زهور البلاستيك الباردة كالمنفى، كالنصّ الّذي في جيبك لم تقرأه  "فعال" ولم ترو جفافه من فيروزتيها . وأخذتَ تنظر في انكسار أيضا إلى المعبر... هناك نساء جميلات جدّا. خرّب الله هذا الوطن الصّغير ما أحلى النّساء  فيه!... ولكن أيّ واحدة منهنّ الآن كفيلة بأن تستمع إليك وتبكي؟ أيّ واحدة تخشع لمرآك حانيا على الدّفتر وتكتم جلبة كعبها العالي وتعتذر عن صراخ الطفل؟ أيّ منهنّ يمكن أن تقبّل خدّك بعد إذ أتممت مسودّتك ثم تضع رأسها على صدرك وتقول لك  "حبيبي اقرأ  !" ؟

نظرت إلى المسدّس الأزرق فوقك محمولا على سواري باردة... عبر طائر، سقسق   في عُجْمته الأولى ومضى... عبرت سحابة، حدجتك بنظرة مواربة وولّت ، كانت إلى مقصدها في الجنوب متلهّفة عجلى... عبرت طائرة ، كانت تحدّق في الشّمال وتنفض عن هدبها نُتف السّحاب . ولا شيء،  لا شيء البتّة عن الطلعة المشتهاة .

(كان لها أن تقاسمني قهوتي وفراغ خطاي... كانت لها نكهة القهوة الدّاكنة وفاكهتي عطر مئزرها واتّساق المعاني على الدّمعة النّافرة.)

دفعتَ ثمن شرابك وقمت... تسللتْ يدُك إلى جيبك وأخذتَ نصّك اليتيمَ الشّاحبَ وتلفتَّ تنظر  مزّقت الورقة إربا ووضعتها في السلّة .

عبد المجيد يوسف

(الرّابط): قصّة وكأنّ رجع حديثها... على مكتبة عبد المجيد يوسف