عبد المجيد يوسف |
وقفت في ذلك الصّباح المشبع بالضّوء وبالأبخرة على عتبة الكافتيريا المحاذية لمحطّة النّقل البرّيّ ببنزرت ...وقفت آخذ من الدّفء وأتشرّب من النّور الغامر الغاسل لآثار اللّيل. والتفتّ ناحية الميناء من حيث تتجلّى الشّمس، فرأيت هامات الصّواري تتسامق على السّياج، وأعناق الرّوافع تتحرّك دائريّا تشحن حاويات ضخمة تغيّبها في أجواف السّفن. وطاف بذهني هوامات عن أجواء بحريّة محمّلة بالخرافات ومغامرات النّوتيّة في ما يصادفونه من جزائر معزولة يهمون بها وتصدّهم عنها شواطئ صخريّة، تناديهم منها نساء عاريات يلوّحن بأصناف الثّمر وغرائب اللّذّات. لكنّهم يدحرون عن كلّ ذلك... كآتي الإثم يُقدم عليه ويقف دونه... تصدّه عنه البراهين...
نظرت في المحطّة والنّاس في لهفة السّفر تتجاذبهم الجهات الأربع كأنّهم يفرّون من الثّقل إلى الخفّة والطّيران... يركبون سيّارات الأجرة إلى وجهات المدن المجاورة، وكان من بينهم صديقي رشيد إسحاق، رأيته تنطلق به سيّارة متوجّهة إلى العاصمة.
استغربت رحيل صديقي في هذه السّاعة وهو الحريص على مواعيده وعلى تأجيلها مسبقا إن أزفت وكان هناك مانع من اللّقاء، فإنّ لي به موعدا بعد ثلاثين دقيقة في منزله.
عدلت عن دخول الكافتيريا وسحقت سيجارتي بحذائي ودلفت إلى سيّارتي... لم يخل القلب من توتّر وتسارع الدّفق في الشّرايين. ثم تمكّنت من السّيطرة على ارتعاش أصابعي وأنا أولج المفتاح في قفل التّوصيل...تجاوزت الجسر المتحرّك وانعطفت يمينا باتّجاه قرية منزل عبد الرّحمان بأحواز المدينة .
قطعت الكيلومترات الأربعة في سرعة متوسّطة، وربّما تباطأت السّيّارة قليلا في "صعدة الشّرف" فالمحرّك مجهد وأنا لم أحفّزه كفاية قبل تسلّق الرّبوة. لكن حين وصلت القمّة قطعت حبل التّوصيل وتركت السيّارة تنساب بحرّيّة لكنّي كنت حذرا وكانت قدمي قريبة من دوّاسة المكبح. وفاجأتني سيطرتي على انفعالاتي المتوثّبة.
تجاوزت وسط القرية وقد استعادت السيّارة جهدها الدّافع المتّزن. وقبل الخروج من حدود القرية جنوبا انعطفت يمينا في مسلك ترابي وتوقّفت أمام منزل صديقي رشيد إسحاق وترجّلت وضغطت الجرس.. بعد قليل فتحت السّيّدة سلوى زوجته... رحّبت بي مصافحة. كانت في مجول حريريّ أزرق سماويّ وشعرها فيه بعض التّشويش... دعتني للدّخول فتبعتها مضطرب الخطو عالي الوجيب... كانت تسمع موسيقى خافتة لم أتبيّن مصدرها... لعلّها من غرفة النّوم أو من الحمّام .
قلت وأنا أتبعها إلى غرفة الاستقبال:
- رشيد قام؟
قالت وهي تبسط كفّا صغيرة بيضاء باتّجاه الدّيوان:
- رشيد في تونس.
قلت كالمتعجّب:
- غريب! عندنا موعد في هذه السّاعة بالضّبط
ونظرت في ساعة معصمي.
جلستْ في المقعد المقابل وحرصتْ على جمع طرفي المجول لإخفاء ما ظهر من بياض ساقيها وقالت:
- كلّمه النّاشر في اللّيل... الدّيوان الجديد جاهز ويلزم يصحّح الماكيت في أسرع وقت ممكن .
هذا وجه سلوى المرسوم بعناية وبغاية الإتقان والتّوسّط، في إطار من شعر أسود يصل الكتفين، ورغم أنّه الآن مهمل بعض الشّيء فإنّ به عند النّهاية انعطافا طبيعيّا إلى الخارج وليونة تتراقص عليها أطياف الضّوء والألوان ...كان لسلوى عديد المقالات في نقد صنعة الشّعر منشورة في المشرق والمغرب. وقد التقاها رشيد خلال ندوة شعريّة وسمع لها أقوالا في الصّناعة استحوذت على عقله مثلما استحوذ جمالها ولطفها على قلبه، وقال لي آنئذ: إنّ طاقتها من الجاذبيّة والأنوثة لا يضاهيها إلاّ معرفتها الواسعة بصناعة الكلام وحسن تذوّقه والنّفاذ إلى مجاهله. فتزوّجها وقبل ذلك كان كتب عديد نصوصه فيها.
قامت وقالت :
- نحضر لك قهوة.
وانصرفت إلى المطبخ تعدّها. وقبل أن تختفي التفتت إلي وقالت:
- هيّا معي.
في المطبخ قدّمت لي كرسيّا واطئا وجلست أرقبها.
رفعت خصلة من شعرها تهدّلت على وجهها وثبّتتها وراء أذنها، وبحثت بعينيها عن الرّكوة فلم تجدها في موضعها. نظرت في حوض الماء المعدّ بالغاسول لتنظيف الصّحون فنظّفتها جيّدا وفتحت عليها الصّنبور طويلا أكثر من الحاجة... كانت سلوى في الحقيقة تتلذّذ بانسكاب السّائل الدّافئ على يديها. ثم فتحت خزانة فأخرجت صحنين صغيرين وضعت في كلّ منهما فنجانا وكالت الماء بأحدهما وسكبته في الرّكوة. ضغطت زرّ الولاّعة الكهربائيّة الملحقة بالموقد دون جدوى. نجدتها بعلبة كبريتي فأخذتها شاكرة.
قالت:
- طابع سكّر واحد... نعرف قهوتك.
ثمّ كالت ملعقتين من البنّ الصّافي الذّكيّ الرّائحة وما لبثت أن أسرعت برفع الرّكوة عن الموقد ثمّ قرّبتها بأناة وحرص من أحد الفنجانين وسكبت فيه السّائل الدّاكن ثمّ عمدت إلى مرشّ فسكبت منه قطرات ماء زهر النارنج، وأعادت صنيعها فجهّزت قهوة ثانية بماء ساخن سلفا وقدّمت لي فنجاني وفوق القهوة طبقة كثيفة من رغوة فاتحة اللّون.
رشفت من الفنجان وهي ترقبني واقفة كما لو كانت تنتظر حكمي. وبدا لي من السّخف أن أمتدح القهوة أو أن أشكرها، وفهمت هي ذلك. قلت :
- ألا تجلسين؟
فكّرت قليلا وقالت:
- نقعدو في الصّالة.
وحملنا الفنجانين وتتابعنا في بطء وحرص حتّى لا يرتجّ السّائل النّفيس داخل الآنيتين. وجلسنا في مكاننا الأول، وتطلّب جمع طرفيْ المجول بعض الوقت ولم تكن سلوى عجولة على جمعه.
أعطيتها سيجارة فقضمتها بين شفتيها وأدنت وجهها من الشّعلة الّتي قدّمتها إليها. كان وجهها قاب قوسين من يدي المرتجفة، فمدّت يديها وثبّتتها. وانبثق من بين رموشها شعاع أسود، لمعة برق قاتمة في سماء مبهرة النّور. لم يكن سؤالا على ما يبدو، وربّما كان إقرارا أو مشاركة أو قولا غامضا يقتضي ليلة من التّسهيد.
جذبتْ نفسا خفيفا وتراجعت ثمّ رفعت رأسها عاليا وكوّرت شفتيها وأطلقت قزعا من الدّخان في السّماء. والتمع في عنقها الأبيض الطّويل طيف من الضّوء صادر من قلادة ذهبيّة شديدة الدّقّة. وسرح بصرها في أثر خاطر شارد. قلت أستردّها:
- نتوقّع أنّ ديوان رشيد الجديد ماشي يلقى صدى واسع.
رأيت وجهها يتكدّر وقالت:
- علاش؟
- النّصوص متميّزة، ثمّة بحث عن لغة جديدة... تركيبات غريبة من نصوص قديمة من ثقافات مختلفة نفض عليها الغبار وحمّلها صور وتوظيفات مبتكرة.
قلّبت شفتها السّفلى تعبيرا عن الجهل بالأمر وقالت غائبة النّظرات:
- أنت تعرف أنّو ما يطلعنيش على نصوصه. والكتب كما تشوف في المكتب مغلق عليها بالمفتاح.
صمتنا وطال بنا الصّمت. وانشحن بالانفعالات. كانت الموسيقى الخافتة قد توقّفت من تلقائها وتوقّفنا عن احتساء القهوة. هذه المرأة الواقعة من السّماء معذّبة بالخيبة والتّناقض، وربّما كانت في هذه اللّحظة تنهش رأسها أسئلة مريرة عن ماهية الشّاعر في زوجها وعن ماهية الشّعر في صلته بالذّات الّتي تنتجه وبالحياة وممارسة الوجود. ولعلّها تتساءل الآن مثلي: من أين يستخرج شاعر مثل رشيد تلك الصّور الّتي يشكّلها في الكلام فيسحر بها الألباب... من أين يأتي القبيح بالجميل والوضيع بالرّفيع؟ وتذكّرت أنّ سلوى تنشر نصوصها باسم مستعار في الصّحف الأدبيّة ولم تتمكّن من نشر كتاب وأنّها أقلعت عن النّقد ولم تعد قادرة إلاّ على الخطفة من النّصوص القصيرة، وأنّي أنا شخصيّا من يراسل الصّحف بتلك النّصوص الّتي تسرّبها إليّ في غفلة منه. وتذكّرت أيضا المرّات الّتي حضرت فيها صالون رشيد إسحاق الأدبيّ حيث كانت سلوى النّاقدة الواسعة المعرفة بالشّعر تكتفي بتقديم الحلوى وشراب الكازوز ثم تختفي في غرفتها.
وفي تلك اللّحظة سُمع بكاء رضيعها، فأسرعت إليه. وما لبثت أن عادت تحتضنه، وتذكّرت أنّ سلوى طلبت منّي مالا قبل وضعه لتعدّ بعض اللّوازم اعتبرها زوجها غير ضروريّة... أخذت تهدهد الرّضيع وجعلت له من ذراعيها دوحا هزّازا، لكنّ صراخه استمر... فتحت مجولها وأزالت غلالتها عن صدرها وأخرجت له "ثديا مثل حُــــقّ العاج، رخصا" بهالة ورديّة وحلمة طويلة... بحياتي لم أر حلمة طويلة مثل حلمة سلوى. لم تحاول مضيّفتي التخفّي كما تفعل المرضعات عادة... ألقمت الرّضيع الحلمة الطّويلة وهي تمسك الثّدي بأناملها حتّى لا تسدّ عليه منفذ الهواء... أمّا أنا فقد علا في صدري الوجيب وارتبكت وحاولت البحث عن قول يخرج بي ممّا أنا فيه. لكن لاحظتُ أنّ سلوى منصرفة عنّي وعمّا يمكن أن أقول... ثم أنّي إذا قلت شيئا فسوف يشي بي القول وأفضح ما أنا فيه.
وفي نظرة مسترقة رأيت على منبت الثّدي آثار كدمة مستطيلة ناتجة عن جَـــلْد.
كانت دهشتي ممزوجة بالأسف والثّورة والاحتقار بل بالرّغبة في القتل... ودفعت بي كلّ هذه المشاعر المتلاطمة إلى القيام للانصراف. وفي مروري قربها نظرت إليّ فزعة مستفهمة... تركت يدها الثّدي يخنق وليدها وأمسكت بيدي بقوة تجذبني إلى المقعد المجاور لها وقالت:
- بربّي أقعد شويّه !
قلت أشيح بنظري بعيدا:
- نخلّيك تعتني بولدك.
اختنق الوليد فترك الحلمة وأبعد وجهه ليتمكّن من التّنفّس وعاد إلى البكاء.
ألقمته ثديها من جديد وقالت وعيناها إليّ:
- يبكي يحبّ يرضع... وتوّه يعاود يرقد... زيد أقعد شويّه بربّي.
وانصرفت إليه تنظر في وجهه وتناغيه وهو يمتصّ رحيقها. كان أحيانا يكفّ عن الرّضاع ويترك الحلمة ويبتسم لها ثمّ يعود إلى شأنه وتعود إلى شأنها معه. وصاحت فجأة:
- أيْ ! أنت تعضّ ماما؟ توّه نفطمك. شويّه أخرى ونفطمك.
ترك الرّضيع الحلمة وقهقه غير مدرك لخطورة الموقف الّذي يتهدّده. وما لبث أن ارتخى وأطبق جفونه وصارت مصّاته متباعدة. استلّت حلمتها من فيه ببطء وحرص وهمست لي تطلب منديلا ورقيا فناولتها إيّاه... كان خيط من لبنها قد نزل من فم الرّضيع فمسحته، وبذات المنديل جفّفت حلمتها ووضعته جانبا... وكما يؤخذ كوب من الكريستال أخذت نهدها فأعادته تحت الغلالة. نظرتْ إليّ باسمة، ثمّ قامت واختفت فوضعت الصّبيّ في مهده وانبعثت الموسيقى الحالمة من جديد صافيه مهدهدة. رأيت المنديل فأسرعت فأودعته جيبي. وما لبثت أن عادت فقالت بصوت خفيت:
- رقد.
ولم تجلس قبالتي بل جلست قربي وهي تتفحصّني وقالت.
- مراد، أنت متوتّر.
لم أجب، بل كنت مركزا على كبح مشاعر الثّورة في داخلي. وسقط رأسها على كتفي وتشبّثت ذراعها بذراعي وطال بنا صمت مشحون بالانفعالات. ونظرت إليها مواربة. كان على صفحة خدّها الأسيل الصّافي خصلة من شعرها، وخرج أنفها أشمّ متكبّرا، واستدارت زاوية ثغرها إلى أسفل كما لو حملت تعبيرة امتعاض . كانت صامتة تحدّق في السجّاد. استبدّ بها الكدر ونسيت سعادتها العابرة بلحظات الحنان الّتي غمرتها حين إرضاع طفلها... الحزن هو الغالب المتمكّن، والسّعادة هشّة كنسمة عطرة عصفت بها ريح غاشمة، وما ترسّب في الأنف هو العطونة.
همستُ:
- سلوى !
رفعت إليّ وجهها بنظرة منكسرة مدارية وعادت إلى التّحديق في السّجّاد. ربتّ على شعرها ومسحت بوجهها وأخذت كفّها بيدي وامتدّ الوقت على هيئة من سكون... وفي ناحية أخرى من القلب نمت حبّة حقد ونقمة واحتقار وعزم على الهدم.
ونظرت في ساعة الحائط وقلت:
- سلوى، لازم نمشي ... ما عادش وقت.
لم تتحرّك... كانت بعيدة في عالم من الغيب... وانتظرتُ أوبتها ويدي ماسحة بالخدّ والشّعر والأخرى ماسكة بالحمامة النائمة المطمئنّة، ثمّ رفعت رأسها بثقل. قمت وجذبتها وتوجّهنا إلى الباب. وقبل أن أفتح استدرت وأخذت وجهها بين يدي، فرنت إليّ بمقلتين فيهما ذات الانكسار... والأنف متكبّر أشمّ.
قلت:
- سلوى! أنا صديقك ويمكنك أن تعتمدي علي... أنا مستعدّ أرتكب جريمة من أجلك. يكمن نكون في أيّ موقع حسب إشارتك...
طوّقت عنقي بذراعيها وضغطتْ... وارتفعت يداي إلى الكتفين أربّت عليهما فتأوّهت ... تركت عنقي وكشفت عن كتفيها لتريني آثار الجلد.
شتمت وضربت الحائط بقبضتي فأدميتها... وصرخت سلوى منزعجة لهفى، وجذبتني إلى الدّاخل تريد أن تضمّد جروحي... لكنّي تخلّصت منها بلطف وإصرار وغادرت. وتدفّقت الشّتائم والتّوعّد بالقتل وهدم العالم... وسقت السيّارة بعنف وارتطمت بجذع شجيرة فلم أبال... وأنا أتسلّق صعدة الشّرف عائدا إلى بنزرت تذكّرت المنديل، فامتدّت يدي إليه ومرّرته على وجهي... ولثمته واستنشقته... ثم انفجرتُ في نحيب لم أعهده وسال دمع مهراق غشي عينيّ... فلم أتفطّن في المنعطف عند قمّة الرّبوة إلى الشّاحنة العسكريّة القادمة من الاتّجاه المقابل وهي تملأ الطّريق.
0 التعليقات :