الأربعاء، 29 مايو 2013

الرّكن النيّر للكاتب: عبد المجيد يوسف

نشرت من طرف : Unknown  |  في   4:32 م




    إلى عليّ الدوعاجي
 
عليّ الدّوعاجي

ذرعتُ المدينة حتّى أُنهِكت وأنا محمّل بثلاث إضبارات فيها سبعة عشر مخطوطا هي حصـيلة مؤلّفاتي الّتي وضعتها في السّنوات العشرين الماضية ولم أجد لها ناشرا لضيق ذات الـيد وقــد عرضتها طوال الأسبوع الفائت على دور النّشر المختلفة، الخاصّة والحكوميّة، فكانت النّتيجـة واحدة: النّظرَ في عنوان المخطوط وتقليبَ صفحاته على عجل وتصنّعَ التأمّل ثم الإصداع َبحكم في غاية القسوة : الشّكوى مـــن عدم رواج الكتـاب الثّقافيّ وعــزوفِ النّـاس عن الـقـراءة وبوار الكتاب ووشك إغلاق دور النّشر :
_ عندكش كتاب مواز للبرامج الدراسيّة وإلاّ كتاب ديني حـول أهوال القــيامة ووصف الجــنّة ومقاومة الحسد؟ هذيك المواضيع المطلوبة .
لمّا شارفت نهاية شارع المنجي سليم بالعاصمة انعطفتُ يمينا في نهج زرقون وانخرطتُ فـي حركـــــة السّوق واختلطت بالسّابلة وبالباعة العارضين لبضائع مختلفة: ساعاتٍ، مجفّفـــاتِ شعـر، أحذية رياضية مستوردة تباع بالمزاد العلنيّ... وعن اليمين والشّمال محلاّتُ أثاث اللّوكانتو باهظة  الثّمن ثمّ باعةُ الكتب القديمة وقد قلّ عددهم وتقلّص وجودهم.
راودتني فكرة عرض مخطوطاتي للبيع على قارعة الطّريق ثم تبـيّنت مدى سخفها، إذ الكـــتبُ يجب أن تطبع وتنشر ويعافها القّرّاء  قبل أن تباع سقطا على الرّصيف. 
             لمّـا وصلت إلى مستوى نهج سيدي قادوس  رأيت صديقي صاحب البرنس الرّمادي جالسا عند رجل قذر الهيأة يبيع البيض المسلوق. رآني في ذات اللّحظة فناداني بإشارة من يده
 _ مراد !
انعطفت إليه، فقدّم لي علبة كرتون مغلقة وأمرني بالجلوس عليها وأمر صاحبه فقشّر لي بيضة ورشّ عليها مــــن الكـمّون والمـلح والـفلفل الأكـحل وقدّمها إليّ، كنت متعبا وفكّرت أنّ البيضة سوف تعيد إليّ بعض القوّة وطلبت بيضة ثانية. كان صاحب البرنس الرّماديّ يدخّن الشّيشة ويمجّ دخانه في السّماء ويتفحّص المارّة ويردّ على من يحيّيه من أهل نهج زرقون . وقال لي بين قرقرتين:
_  وين كنت ؟
فرويت له . قال: تضيّع في وقتك. شوف نهج زرقون، وين هم بيّاعة الكتب القديمة؟ ســـــكروا ومشاو يعملو حاجة أخرى، شوف نهج الدباغين... الكتب المعــــروضة كلّها ما عادش عنـدها حتّى قيمة، ها هو عمّك الزعيم، تتفكّر نصبة الكتب متاعو؟ ولّى يبيع العضم  والفول والهريسة.
قلت: المؤسف أنّ كتبي ما تتباعش لا في نهج زرقون ولا في الدبّاغين لسبب بسيط: أنّها موش مطبوعة.
قال وهو يحدّق أرضا في قشور البيض المطروحة مثل نصبة الكتب البالية فــي نهج الـدّبّاغين :
_ طباعة كتاب موش مشكلة... عندك فلوس تطبع اللّي تحبّ... المهمّ شكون يقرأ.
قلت: أنت تخرّف... طباعة كتاب موش مشكلة؟ منين الفلوس؟ أمنيتي نطبع كتاب ونـــــراه ولــو مطروح فـــــي الدّبّاغين وإلاّ في مكتبة ساحة العملة.
أردت الانصراف فاستبقاني... وما لبث أن مجّ كلّ ما اختزن في جوفه من الدّخان الثّقيل ولــوى الخرطوم على عنق الشّيشة والمعسّل لمّا ينته، وقام وجذبني من يدي وقال : هيّا .
تبعته ولا أعلم أنّى يسير بي . سرنا  غربا باتّجاه القرانة. ولمّا وصلنا إلى مســتوى نهج سيدي عبد الله قش انعطف يمينـــا  ودخل في النّاس الواردين على سوق الجنس  والصّادرين منه .
  توقّفت عن اتّباعه، فأنا لا أختلف البتّة إلى المواخير إذ يسوء ظنّي بالإنسان وينتابني ألم ممـــضّ. ورجع إليّ صديقي صاحب البرنس الرّماديّ وقد حرِنتُ  مكاني فجــعل يدفعني دفــعا وهو يــقول:
_ يا متخلّف !  ما تحبّش تطبع كتابك؟
قلت : يا أخي  سيدي عبد الله قش  حلّ  دار نشر؟
قال وهو ما فتئ يدفعني:
- امشي واسكت، عندكش عشرة آلاف؟
قلت كاذبا: ما عنديش.
مال إلى قهرمانة جالسة في الشّارع وراء طاولة صغيرة وأمامها كرّاس مفتوح وحولها بعـض مقاعد جلس عليها أشخاص فهمت أنّهم منتظرون أدوارهم في الدّخول.
سأل صاحب البرنس المرأة : وين منية ؟
قالت  : اقعدوا استنّوا شويّه.
و تفحّصتُ المنتظرين... كانوا أناسا محترمين وقد بدت على بعضهم ملامح الوجاهة وكـــــان بعضهم يحمل صحيفة مطويّة. قلت في نفسي: هؤلاء قرّاء... وربّما كانت نصوصي الســـّابقة الّتي نشرتها في تلك الصحيفة قد دخلت هذا النّهج وقُرئت فيه، وربما قرأتها النّسوة اللاّتي هـــنّ الآن في الحُجُب وراء الأبواب الموصدة... تُـرى لو ناقشتني إحداهنّ في ما كتبـتُ؟ بل لو ناقشتني القهرمانة شخصيّا... فتلك صحيفتها على المائدة .
وفــدّ  صاحبي من الانتظار فقام وهمس شيئا في أذن القهرمانة فهزّت رأسها موافقة ونفحـها ورقة نقديّة.
وما لبث أن فتح الباب وخرج منه رجل وانغلق الباب من خلفه دون أن يظهر من داخل الغرفــة شيء، وقام أحد المنتظرين أظنّه صاحبَ الدّولة يروم الدّخول فنهرته القهرمـانة وبذئت  فـــــي الكلام فأقعى ذليلا. وأخذ صاحبي بملابسي ودفعني إلى الباب دفعا وهو يقول:
_ احكي لها حكايتك وقل لها بعثني صاحب البرنس الرّماديّ.
وفتح الباب مواربة فدخلت ووجدتني داخل غرفة نظيفة يحتلّ صــدرها سرير يتّسع لشخصــين .
 وفــي جانب منها مائدة عليها أدوات الزّينة تعلـوها مرآة بيضاويّة وفـي ركن مشجـب وطاولـــة عليها بعض الكتب وكأس رُشقت فيها أقلام، وعلى النّافذة ستائر من الموصلي الموشّى.
وعلى العموم فقد كان المكان نظيفا مرتّبا، وقد يوحي لغيري بالرّاحة والاطمئنان، إلاّ أنّي كنـت شديـــد الارتباك وأنا أنظر إلى المرأة  تتزيّن.
كانت في مِجول حريريّ أزرقَ عاريـة الكـتفين طــويلة رشيقة بشعر كستـنائيّ مرسـل عـلى كتفـين ضيّقتـين حسنتـيْ الاستدارة، تنبت منهما ذراعــــان بضّتان.
 كانت  تضـــــع على فمها قرمزا وبحركة منه تنــشر الطّلاء علــى كامــل الشّفتين.
         نظرت في المرآة فرأت أنّي تركت الباب مواربا، فنهرتني بشيء من الغلظة أن أغـــــلق الباب وأن أضع حملي على الطّاولة وأجلس، فامتثلت، ثم توجّهتْ إليّ ولاصقتني ولعبت بكرافاتي وقبّلتني وعضّت ذقني ودفعتني برفق إلى السّرير... وسقط مجولها وقد شاءت إسقاطه... لكنّي اندفعت واقـفا وقلــت لها:
_ اسمعي يا أختي... أنا ما جيتش لهذا... أنا بعثني صاحب البرنس الرّمادي.
 سكتت برهة تتأمّلني ثم قالت :
- يكبّ سعدو، صاحب الغرايب، تفضّل... اقعد.
جلستُ ونظرتْ تتفحصّني، وقالت :
_  تعرف؟ م اللّحظة الأولى شكّيت في أمرك، ماكش عادي.
وتذكَّرَتْ فجأة فالتقطت مجولها ولبسته وجلستْ حذائي فقصصتُ عليها القَصَصَ وقلت:
_ إلى حدّ الآن مانيش فاهم العلاقة بين سيادتك ونشر كتاب من مؤلّفاتي .
قالت: قدّاش  عندك من مؤلَّف؟
_ سبعة عشر.
_ تبارك الله! ما نشرتش منهم ولا واحد؟
_ ولا واحد.
قامت إلى الإضبارات الثّلاث فأخذت واحدة وقالت:
- تسمح نشوف؟
وفتحت الإضبارة وتوقّفت عند الملفّ الأوّل  حيث جمعت نصوص قصصيّة،  فأخذت القصّة الأولى الّتي تناهز كلماتها مائتين لا غير، وانبرت تقرؤها وأنا أنظر إليها  جالسة قريبا منّي وخصلات مــن شعرها تـتهدّل على وجهها، وربّما كانت تحُول دون القراءة فكانـت تمدّ يـدا جميـلة بيضاء ناصعـة بأصابع رشيقة مخضّبة الأظفار بالأرجوان،  فتعيد الخصلات إلى موقعها، وكان بأنفها رشْح، فمدّت يدها تبحث عن منديل ورقيّ دون أن تحوّل بصرها عن الورقة، وَضَعْتُ المنديل في يدها فجــفّفتْ أنفها في صوت خفيت، وبإصبعين أمسكت المنديل،  وبالوسطى والبنصر واصلت  ردّ الخصلات عـن وجهها.
 أتمّت القراءة فاستأنفتها، وفي قراءتها الثّانية كنتُ ألحظ تَغَضُّنَ جبينـِها فـي بعـض المواقـع وإطالةَ  التوقّف   في موقع آُخَرَ، ثمّ تواصل عيناها السّعيَ البطيء بين السّطور.
        لمّا أتمّت  وضعت الورقة َفي الملفّ وسألتْ:
- الملفّات كلّها قصص قصيرة مركّزة من ها النوع؟
قلت : هناك مجموعة أخرى من نوع آخر، الإنسان يتطوّر وتتطوّر رؤاه الفنيّة... وبقيّة الملفّات فيها مقالات نقديّة.
قالت: النّقد ما نفهموش... يلزمو ثقافة معينة. أنا نحبّ الشّعر والقصص.
- وعجبتك قصّتي؟
لم تجب وظلّت تفكّر وعيناها عالقتان بالسّقف كنت أنتظر حكمَها على قصّتي بشـيء من الرّهبـــــة، ولم أكن أدري لِمَ بدا لي ذلك الحكمُ مهمّا جدّا ومرعبا انتظارُه، وأنّ مستقبلي الأدبــيّ معــلّق بشــفتيْ امرأة ألتقيها في هذا المحلّ بالذّات... كان إحساسا مبهما لا منطق فيه ولا مبرّر لـه، لكنـّه كـان قـويـّا وآسرا... وأخيرا نظرت إليّ باسمة وقالت: أنت كاتب موهوب جدّا يا...
وأسرعت أقول :
_ مراد.
_ أنت كاتب موهوب يا مراد... ما أعجبني في قصّتك أنّك تحكي على المسكوت عنه، عن المشاعــر الصّغيرة البسيطة والحركة اللّي ماتتراش  واللّمسة اللّي ما يتفاقش بيها. والوصف... الوصف عندك شعر... ترا الجزئيّة الصّغيرة وتكبّرها وتدخل من ورائها إلى عمق الشّخصيّة...
سعدتُ جدّا بهذا الحكم وسرى فيّ انتشاء... ها قد وجدتُ أخيرا من يهتدي في بساطة ويسر ودقّة إلى دقائق مشروعي القصصيّ ويقدّره حقّ قدره. فليخرسْ ذلك النّاقد الكبير الّذي وصف كتابــتي بأنّها خالية من العمق. وكدت أنبري في بسط مشروعي في كتابة القصّة لكنّي أقلعت. موش وقتو.
وفي تلك اللّحظة سُمع قرع عنيف على الباب، وبلغنا صوت القهرمانة تستعجل خروجي  وتسبّنـي، وتوصم  المرأة بأبشع النّعوت، وتلعن صاحب البرنس الرّماديّ... لكنّ منية لم تعبأ بتهديدها.
وأشرتُ إلى الكتب الموضوعة، واستطعت أن أميّز روايات لحنّا مينا وجبرا ابراهيم  جبرا وديوان طاغور بترجمة التليسي.
قالت : الكتب لأوقات الفراغ.
قلت : وما هي أوقات الفراغ عندك؟
وندمتُ على السّؤال واعتذرتُ، لكنّها قالت: لا بأس. أوقات الفراغ أحدّدها أنا بنفسي.
وأطرقتْ، وامتدّ بنا صمت وأنا أتأمّلها. ثم رفعتْ إليّ عينين مخضلتين وقالت: كنت في اللّيسي أكتب القصّة وشجّعني أستاذي ونشر لي قصّة في جريدة بلادي...
وعادت إلـى الصّـمت تعبث بحــــزام المجول، ثم رفعت المنديل إلى عينيها فجفّفتهما وحوّلت إليّ ثغرا مبتسما ابتسامة مبلّلة.
وقالت: لأوّل مرّة نشوف كاتب ونحكي معه مباشرة... كأنّي في عالم غير العالم.
أخذتُ يدها تلك اللّطيفة الرّقيقة البضّة الرّشيقة الأصابع فحضنتها وقرّبتها من شفتيّ وقبّلتها وقلت :
_ لكن يا منية الكُتّـاب بشر عاديين، وربّما يكونوا أشقياء أكثر من غيرهم.
فجاءت حمامتها الثّانية لتحضن يدي وقالت:
_ شقاهم هو السّبب في تميّزهم... موش فـــمّ  شاعر ما نعرفش شكون قـال "أمتاز علــيك بأحزاني؟ "
قلت : أمممم... يوسف رزوقة.
ثم ظهر الجدّ على وجهها... جدّ العازم علـى الأمـر الخطـير وسحبت يديـها وقامـت وعيّنت كرسيّا مولًى شطر الجدار ورجتني أن أنتقل للجلوس عليه.
وبعد برهـة اقتربـت منـّي ووضـعت يـدها عـلى كتفتي، فنظرت فإذا هي قد وضعت تنّورة سـوداء ينـزل علـيها إلـى الكِفل مسـرودة  برتقالية اللّون بأكمام قصيرة تكشف عن الترقوتين، وقد ضغطتهما حمّـــالة ســوداء انغـرزت في لـيونتهما.
كانت جميلة جدّا، وكانت نبيلة ومبهرة.
قالت : هيّا.
ولم أفهم، ورأت تساؤلي الصّامت  فقالت:
  - للمطبعة... هاهي هنا في شارع المنجي سليم... تخرّج كتابك على نفقة المؤلّف .
  - على نفقة المؤلّف؟ أيّ مؤلّف؟
   _ المؤلّف... أنت... فمّ مؤلّف آخر غيرك؟
ولم تبدّد حيرتي ولم تترك مجالا لمزيد التّساؤل إذ تقدّمـت وطوّقت عنقي بذراعـيها وخبّأت فيـه وجهها.
وارتفعت يداي فطوّقتُها بواحد، وجاست الثّانية في شعرها، وبلغني عبيره نافـذا إلـى الأعمـاق شـذيّا منعشا...
وخرجنا من الغرفة وهي حاملة إحدى الإضبارات، والتفتت إلى القهرمانة وقالت:
   _ أمّي بيّة، مانيش راجعة اليوم.
واحتجّت القهرمانة وشتمت وجدّفت وزادت فلعنت دين والديْ صاحب الـبـرنس الرّماديّ، فلم تعبـأ بها، وسرنا خارجين من النّهج المبارك، نهج الوليّ الصّالح  سيدي عبد الله قشّ .
وفي مرورنا شاهدتُ صديقي صاحب البرنس  جالسا على ناصية نهج سيدي قادوس يرســل فـــي الهواء بزخّات الدّخان، كنتُ على يقين من أنّه رآنا إذ لم يكن يفصلنا عنه إلاّ أمتـار قليلة، لكـــــنّه تصـنّع الغفلةَ، ولم يبد عليه سرورٌ بما فـعل، لكنّي واثــــــق من أنّه سعيد، لأنّه يعرف هذا الرّكـــن الــــــنّيّر.
عبد المجيد يوسف 

رابط القصّة على مكتبة عبد المجيد يوسف

التسميات : ,

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات :

مواضيع أخرى

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
أتيت بمنطق العرب الأصيل ،،، أتيت بمنطق العرب الأصيل ،،، أتيت بمنطق العرب الأصيل

تعاليق المتابعين

back to top